فصل: سورة آل عمران

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏231- 234‏]‏

‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏231‏)‏ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏232‏)‏ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏233‏)‏ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏234‏)‏‏}‏

‏{‏وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنَّ‏}‏ أَيْ‏:‏ قاربن انقضاء عدتهنَّ ‏{‏فأمسكوهنَّ بمعروف‏}‏ أَيْ‏:‏ راجعوهنّ بإشهادٍ على الرَّجعة وعقد لها لا بالوَطْء كما يقول أبو حنيفة ‏{‏أو سرحوهنَّ بمعروف‏}‏ أَي‏:‏ اتركوهنَّ حتى تنقضي عدتهنَّ ويكنَّ أملك بأنفسهنَّ ‏{‏ولا تمسكوهنَّ ضراراً‏}‏ أَيْ‏:‏ لا تُراجعوهنَّ مضارَّةً وأنتم لا حاجة بكم إليهنَّ ‏{‏لتعتدوا‏}‏ عليهنَّ بتطويل العِدَّة ‏{‏ومن يفعل ذلك‏}‏ الاعتداء ‏{‏فقد ظلم نفسه‏}‏ ضرَّها وأثم فيما بينه وبين الله عزَّ وجلَّ ‏{‏ولا تتخذوا آيات الله هزواً‏}‏ كان الرَّجل يُطلِّق في الجاهليَّة ويقول‏:‏ إنَّما طلَّقت وأنا لاعبٌ، فيرجع فيها، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ ‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم‏}‏ بالإِسلام ‏{‏وما أنزل عليكم من الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏والحكمة‏}‏ مواعظ القرآن‏.‏

‏{‏وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنَّ‏}‏ انقضت عدتهنَّ ‏{‏فلا تعضلوهنَّ‏}‏ لا تمنعوهنَّ ‏{‏أن ينكحن أزواجهنَّ‏}‏ بنكاحٍ جديدٍ، أَي‏:‏ الذين كانوا أزواجاً لهنَّ‏.‏ نزلت في أخت معقل بن يسار طلَّقها زوجها، فلمَّا انقضت عدَّتها جاء يخطبها، فأبى معقلٌ أن يُزوِّجها ومنعها بحقِّ الولاية ‏{‏إذا تراضوا بينهم بالمعروف‏}‏ بعقدٍ حلالٍ ومهرٍ جائزٍ ‏{‏ذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ أَمْرُ اللَّهِ بتَرْكِ العضل ‏{‏يوعظ به مَنْ كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى‏}‏ أَيْ‏:‏ ترك العضل خير ‏{‏لكم‏}‏ وأفضلُ ‏{‏وأطهر‏}‏ لقلوبكم من الرِّيبة، وذلك أنَّهما إذا كان في قلب كلِّ واحدٍ منهما علاقةُ حبِّ لم يُؤمن عليهما ‏{‏والله يعلم‏}‏ ما لكم فيه من الصَّلاح‏.‏

‏{‏والوالداتُ يرضعن أولادهن‏}‏ لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر، وهو أمر استحبابٍ لا أمر إيجابٍ‏.‏ يريد‏:‏ إنهنَّ أحقُّ بالإِرضاع من غيرهنَّ إذا أردن ذلك ‏{‏حولين‏}‏ سنتين ‏{‏كاملين‏}‏ تامين، وهذا تحديدٌ لقطع التَّنازع بين الزَّوجين إذا اشتجرا في مدَّة الرَّضاع‏.‏ يدلُّ على هذا قوله‏:‏ ‏{‏لمن أراد‏}‏ أَيْ‏:‏ هذا التَّقدير والبيان ‏{‏لمن أراد أن يتمَّ الرضاعة‏}‏، ‏{‏وعلى المولود له‏}‏ أَي‏:‏ الأب ‏{‏رزقهن وكسوتهنَّ‏}‏ رزق الوالدات ولباسهنَّ‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وعلى الزَّوج رزق المرأة المُطلَّقة وكسوتها إذا أرضعت الولد ‏{‏بالمعروف‏}‏ بما يعرفون أنَّه عدلٌ على قدر الإِمكان، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏لا تكلف نفس إلاَّ وسعها‏}‏ لا تلزم نفسٌ إلاَّ ما يسعها ‏{‏لا تضار والدة بولدها‏}‏ لا ينزع الولد منها إلى غيرها بعد أَنْ رضيت بإرضاعه، وألفها الصَّبيُّ، ولا تُلقيه هي إلى أبيه بعدما عرفها تُضَارُّه بذلك، وهو قوله‏:‏ ‏{‏ولا مولودةٌ له بولده‏}‏، ‏{‏وعلى الوارث مثل ذلك‏}‏ هذا نسقٌ على قوله‏:‏ ‏{‏وعلى المولود له رزقهن وكسوتهنَّ‏}‏ بمعنى‏:‏ على وارث الصبيِّ- الذي لو مات الصبيُّ وله مالٌ ورثه- مثل الذي كان على أبيه في حياته، وأراد بالوارث مَنْ كان من عصبته كائناً من كان من الرِّجال ‏{‏فإن أرادا‏}‏ يعني‏:‏ الأبوين ‏{‏فصالاً‏}‏ فطاماً للولد ‏{‏عن تراضٍ منهما‏}‏ قبل الحولين ‏{‏وتشاور‏}‏ بينهما ‏{‏فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم‏}‏ مراضع غير الوالدة ‏{‏فلا جناح عليكم‏}‏ فلا إثم عليكم ‏{‏إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف‏}‏ أَيْ‏:‏ إذا سلَّمتم إلى الأُمِّ أجرتها بمقدار ما أرضعت‏.‏

‏{‏والذين يتوفون منكم‏}‏ أَيْ‏:‏ يموتون ‏{‏ويذرون‏}‏ ويتركون ‏[‏ويُخَلِّفُون‏]‏ ‏{‏أزواجاً‏}‏ نساءً ‏{‏يتربصن بأنفسهنَّ‏}‏ خبرٌ في معنى الأمر ‏{‏أربعة أشهر وعشرا‏}‏ هذه المدَّة عدَّة المُتوفَّى عنها زوجها إلاَّ أن تكون حاملاً ‏{‏فإذا بلغن أجلهنَّ‏}‏ انقضت عدَّتهنَّ ‏{‏فلا جناح عليكم‏}‏ أيُّها الأولياء ‏{‏فيما فعلن في أنفسهنَّ بالمعروف‏}‏ أَيْ‏:‏ مِنْ تزوُّج الأكفاء بإذن الأولياء‏.‏ هذا تفسير المعروف ها هنا، لأنَّ التي تُزَوِّج نفسها سمَّاها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم زانية، وهذه الآية ناسخةٌ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏متاعاً إلى الحول غير إخراج‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏235‏]‏

‏{‏وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏235‏)‏‏}‏

‏{‏ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به‏}‏ أَيْ‏:‏ تكلَّمتم به من غير تصريح، وهو أن يُضمِّن الكلام دلالةً على ما يريد ‏{‏من خطبة النساء‏}‏ أَي‏:‏ التماس نكاحهنَّ في العدَّة‏.‏ يعني‏:‏ المتوفَّى عنها الزَّوج يجوز التعريض بخطبتها في العدَّة، وهو أن يقول لها وهي في العدَّة‏:‏ إنَّك لجميلةٌ، وإنَّك لنافقةٌ، وإنَّك لصالحةٌ، وإنَّ من عزمي أَنْ أتزوَّج، وما اشبه ذلك ‏{‏أو أَكْنَنْتُمْ‏}‏ أسررتم وأضمرتم ‏{‏في أنفسكم‏}‏ من خطبتهنَّ ونكاحهنَّ ‏{‏علم الله أنكم ستذكرونهنَّ‏}‏ يعني‏:‏ الخطبة ‏{‏ولكن لا تواعدوهن سراً‏}‏ أَيْ‏:‏ لا تأخذوا ميثاقهنَّ أن لا ينكحن غيركم ‏{‏إلاَّ أن تقولوا قولاً معروفاً‏}‏ أَي‏:‏ التَّعرض بالخطبة كما ذكرنا ‏{‏ولا تعزموا عقدة النكاح‏}‏ أيْ‏:‏ لا تصححوا عقدة النِّكاح ‏{‏حتى يبلغ الكتاب أجله‏}‏ حتى تنقضي العدَّة المفروضة ‏{‏واعلموا أنَّ الله يعلم ما في أنفسكم‏}‏ أَيْ‏:‏ مُطَّلعٌ على ما في ضمائركم‏.‏ ‏{‏فاحذروه‏}‏ فخافوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏236- 242‏]‏

‏{‏لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ‏(‏236‏)‏ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏237‏)‏ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ‏(‏238‏)‏ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ‏(‏239‏)‏ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏240‏)‏ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ‏(‏241‏)‏ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏242‏)‏‏}‏

‏{‏لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنَّ‏}‏ نزلت في رجلٍ من الأنصار تزوَّج امرأة ولم يسمِّ لها مهراً، ثمَّ طلَّقها قبل أن يمسَّها، فأعلم الله تعالى أنَّ عقد التَّزويج بغير مهرٍ جائز، ومعناه‏:‏ لا سبيل للنِّساء عليكم إنْ طلقتموهنَّ من قبل المسيس والفرض بصداقٍ ولا نفقة، وقوله‏:‏ ‏{‏أو تفرضوا لهنَّ فريضة‏}‏ أَيْ‏:‏ تُوجبوا لهنَّ صداقاً ‏{‏ومتعوهنَّ‏}‏ أَيْ‏:‏ زوِّدوهنَّ وأعطوهنَّ من ما لكم ما يتمتَّعْنَ به، فالمرأة إذا طُلِّقت قبل تسمية المهر وقبل المسيس فإنَّها تستحق المتعة بإجماع العلماء، ولا مهرَ لها و‏{‏على الموسع‏}‏ أَي‏:‏ الغنيِّ الذي يكون في سعةٍ من غناه ‏{‏قدره‏}‏ أَيْ‏:‏ قدر إمكانه ‏{‏وعلى المقتر‏}‏ الذي في ضيق من فقره قدر إمكانه‏.‏ أعلاها خادم، وأوسطها ثوب، وأقلُّها أقلُّ ماله ثمن‏.‏ قال الشافعيُّ‏:‏ وحسنٌ ثلاثون درهماً‏.‏ ‏{‏متاعاً‏}‏ أَيْ‏:‏ متعوهنَّ متاعاً ‏{‏بالمعروف‏}‏ بما تعرفون أنَّه القصد وقدر الإِمكان ‏{‏حقاً‏}‏ واجباً ‏{‏على المحسنين‏}‏‏.‏

‏{‏وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهنَّ‏}‏ هذا في المُطلَّقة بعد التَّسمية وقبل الدُّخول، حكم الله تعالى لها بنصف المهر، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فنصف ما فرضتم‏}‏ أَيْ‏:‏ فالواجبُ نصف ما فرضتم ‏{‏إلاَّ أن يعفون‏}‏ أَي‏:‏ النِّساء، أَيْ‏:‏ إلاَّ أَنْ يتركن ذلك النِّصف، فلا يُطالبن الأزواج به ‏{‏أو يعفو الذي بيده عقده النكاح‏}‏ أَي‏:‏ الزَّوج لا يرجع في شيءٍ من المهر، فيدع لها المهر الذي وفَّاه عملاً ‏{‏وأن تعفو‏}‏ خطابٌ للرِّجال والنِّساء ‏{‏أقرب للتقوى‏}‏ أَيْ‏:‏ أدعى إلى اتِّقاء معاصي الله؛ لأنَّ هذا العفو ندبٌ، فإذا انتدب المرء له عُلم إنَّه- لما كان فرضاً- أشدُّ استعمالاً ‏{‏ولا تنسوا الفضل بينكم‏}‏ لا تتركوا أن يتفضَّل بعضكم على بعض‏.‏ هذا أمرٌ للزَّوج والمرأة بالفضل والإِحسان‏.‏

‏{‏حافظوا على الصلوات‏}‏ بأدائها في أوقاتها ‏{‏والصلاة الوسطى‏}‏ أَيْ‏:‏ صلاة الفجر، ‏[‏لأنَّها بين صلاتي ليلٍ وصلاتي نهارٍ‏]‏ أفردها بالذِّكر تخصيصاً ‏{‏وقوموا لله قانتين‏}‏ مُطيعين‏.‏

‏{‏فإن خفتم فرجالاً‏}‏ أَيْ‏:‏ إن لم يمكنكم أن تصلُّوا موفِّين للصَّلاة حقًَّها فصلُّوا مُشاةً على أرجلكم ‏{‏أو ركباناً‏}‏ على ظهور دوابِّكم، وهذا في المطاردة والمسايفة ‏{‏فإذا أمنتم فاذكروا الله‏}‏ أَيْ‏:‏ فصلُّوا الصَّلوات الخمس تامَّةً بحقوقها ‏{‏كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون‏}‏ كما افترض عليكم في مواقيتها‏.‏

‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية‏}‏ فعليهم وصيةٌ ‏{‏لأزواجهم‏}‏ لنسائهم، وهذا كان في ابتداء الإِسلام لم يكن للمرأة ميراثٌ من زوجها، وكان على الزَّوج أن يُوصي لها بنفقة حولٍ، فكان الورثة ينفقون عليها حولاً، وكان الحول عزيمةً عليها في الصَّبر عن التَّزوُّج، وكانت مُخيَّرة في أن تعتدَّ إن شاءت في بيت الزَّوج، وإن شاءت خرجت قبل الحول وتسقط نفقتها، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏متاعاً إلى الحول‏}‏ أَيْ‏:‏ متعوهنَّ متاعاً‏.‏

يعني‏:‏ النَّفقة ‏{‏غير إخراجٍ‏}‏ أَيْ‏:‏ من غير إخراج الورثة إيَّاها ‏{‏فإن خرجن فلا جناح عليكم‏}‏ يا أولياء الميِّت في قطع النَّفقة عنهنَّ، وترك منعها عن التَّشوف للنَّكاح والتَّصنُّع للأزواج، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏فيما فعلن في أنفسهنَّ من معروف‏}‏ وهذا كلُّه منسوخٌ بآية المواريث وعدَّةِ المتوفى عنها زوجها‏.‏

‏{‏وللمطلقات متاعٌ بالمعروف حقاً على المتقين‏}‏ لمَّا ذكر الله تعالى متعة المُطلَّقة في قوله‏:‏ ‏{‏حقاً على المحسنين‏}‏ قال رجلٌ من المسلمين‏:‏ إنْ أحسنتُ فعلتُ، وإن لم أُرد ذلك لم أفعل، فأوجبها الله تعالى على المتقين‏.‏ الذين يتَّقون الشِّرك‏.‏

‏{‏كذلك يبين الله لكم آياته‏}‏ شبّه اللَّهُ البيانَ الذي يأتي بالبيان الذي مضى في الأحكام التي ذكرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏243- 247‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏243‏)‏ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏244‏)‏ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏245‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏246‏)‏ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏247‏)‏‏}‏

‏{‏ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم‏}‏ ألم تعلم، ألم ينته علمك إلى هؤلاء، وهم قومٌ من بني إسرائيل خرجوا من بلدتهم هاربين من الطَّاعون، حتى نزلوا وداياً فأماتهم الله جميعاً، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏حذر الموت‏}‏ أَيْ‏:‏ لحذر الموت ‏{‏فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم‏}‏ مقتهم الله على فرارهم من الموت، فأماتهم عقوبةً لهم ثمَّ بعثهم ليستوفوا بقيَّة آجالهم ‏{‏إنَّ الله لذو فضل على الناس‏}‏ أَيْ‏:‏ تفضُّلٍ عليهم بأَنْ أحياهم بعد موتهم‏.‏

‏{‏وقاتلوا في سبيل الله‏}‏ يحرِّض المؤمنين على القتال ‏{‏واعلموا أنَّ الله سميعٌ‏}‏ لما يقوله المُتعلِّل ‏{‏عليمٌ‏}‏ بما يضمره، فإيَّاكم والتَّعلُّلَ‏.‏

‏{‏مَنْ ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً‏}‏ أَيْ‏:‏ مَنْ ذا الذي يعمل عمل المُقرض، بأن يقدِّم من ماله فيأخذ أضعاف ما قدَّم، وهذا استدعاءٌ من الله تعالى إلى أعمال البرِّ ‏{‏والله يقبض‏}‏ أَيْ‏:‏ يُمسك الرِّزق على مَنْ يشاء ‏{‏ويبسط‏}‏ أي‏:‏ ويوسِّع على من يشاء‏.‏

‏{‏ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل‏}‏ أَي‏:‏ إلى الجماعة ‏{‏إذ قالوا لنبيٍّ لهم ابعث لنا ملكاً‏}‏ سألوا نبيَّهم أشمويل عليه السَّلام ملكاً تنتظم به كلمتهم، ويستقيم حالهم في جهاد عدوِّهم، وهو قوله‏:‏ ‏{‏نقاتل في سبيل الله‏}‏ ‏{‏فقال‏}‏ لهم ذلك النَّبيُّ‏:‏ ‏{‏هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا‏}‏ أَيْ‏:‏ لعلَّكم أَنْ تجبنوا عن القتال ‏{‏قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله‏}‏ أَيْ‏:‏ وما يمنعنا عن ذلك‏؟‏ ‏{‏وقد أخرجنا من ديارنا‏}‏ ‏{‏و‏}‏ أُفردنا من ‏{‏أبنائنا‏}‏ بالسِّبي والقتل‏.‏ يعنون‏:‏ إذا بلغ الأمر منَّا هذا فلا بدَّ من الجهاد‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما كتب عليهم القتال تولوا إلاَّ قليلاً منهم‏}‏ وهم الذين عبروا النَّهر، ويأتي ذكرهم‏.‏

‏{‏وقال لهم نبيُّهم إنَّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً‏}‏ أَيْ‏:‏ قد أجابكم إلى ما سألتم من بعث الملك ‏{‏قالوا‏}‏ كيف يملك علينا‏؟‏ وكان من أدنى بيوت بني إسرائيل، ولم يكن من سبط المملكة، فأنكروا ملكه وقالوا‏:‏ ‏{‏ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال‏}‏ أَيْ‏:‏ لم يُؤت ما يتملَّك به الملوك ‏{‏قال‏}‏ النبيُّ‏:‏ ‏{‏إنَّ الله اصطفاه عليكم‏}‏ ‏[‏اختاره‏]‏ بالملك ‏{‏وزاده بسطة في العلم والجسم‏}‏ كان طالوت يومئذٍ أعلم رجلٍ في بني إسرائيل وأجمله وأتمَّه‏.‏ والبسطة‏:‏ الزِّيادة في كلِّ شيء ‏{‏والله يؤتي ملكه من يشاء‏}‏ ليس بالوراثة ‏{‏والله واسع‏}‏ أَيْ‏:‏ واسع الفضل والرِّزق والرَّحمة، فسألوا نبيَّهم على تمليك طالوت آيةً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏248- 252‏]‏

‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏248‏)‏ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏249‏)‏ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏250‏)‏ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏251‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏252‏)‏‏}‏

‏{‏قال لهم نبيُّهم إنَّ آية ملكه أن يأتيكم التابوت‏}‏ وكان تابوتاً أنزله الله تعالى على آدم عليه السَّلام فيه صور الأنبياء عليهم السَّلام، كانت بنو إسرائيل يستفتحون به على عدوِّهم، فغلبتهم العمالقة على التَّابوت، فلمَّا سألوا نبيَّهم البيِّنة على ملك طالوت قال‏:‏ إنَّ آية ملكه أن يردَّ الله تعالى التَّابوت عليكم، فحملت الملائكة التَّابوت حتى وضعته في دار طالوت، وقوله‏:‏ ‏{‏فيه سكينة من ربكم‏}‏ أَيْ‏:‏ طمأنينةٌ‏.‏ كانت قلوبهم تطمئنُّ بذلك، ففي أيِّ مكانٍ كان التَّابوت سكنوا هناك، وكان ذلك من أمر الله تعالى ‏{‏وبقيةٌ ممَّا ترك آل موسى وآل هارون‏}‏ أَيْ‏:‏ تركاه هما، وكانت البقيَّة نعلي موسى وعصاه وعمامة هارون، وقفيزاً من المنِّ الذي كان ينزل عليهم ‏{‏تحمله الملائكة‏}‏ أَي‏:‏ التَّابوت‏.‏ ‏{‏إنَّ في ذلك لآية‏}‏ أَيْ‏:‏ في رجوع التَّابوت إليكم علامة أنَّ الله قد ملَّك طالوت عليكم ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ أَيْ‏:‏ مصدِّقين‏.‏

‏{‏فلما فصل طالوت بالجنود‏}‏ أَيْ‏:‏ خرج بهم من الموضع الذي كانوا فيه إلى جهاد العدوِّ ‏{‏قال‏}‏ لهم طالوت‏:‏ ‏{‏إنَّ الله مبتليكم‏}‏ أَيْ‏:‏ مُختبركم ومُعاملكم مُعاملة المختبر ‏{‏بنهرٍ‏}‏ أَيْ‏:‏ بنهر فلسطين ليتميِّز المحقِّق ومَنْ له نيَّةٌ في الجهاد من المُعذِّر ‏{‏فمن شرب منه‏}‏ أَيْ‏:‏ من مائه ‏{‏فليس مني‏}‏ أَيْ‏:‏ من أهل ديني ‏{‏ومن لم يطعمه‏}‏ لم يذقه ‏{‏فإنَّه مني إلاَّ مَن اغترف غرفة بيده‏}‏ أَيْ‏:‏ مرَّةً واحدةً، أَيْ‏:‏ أخذ منه بجرَّةٍ أو قِربةٍ وما أشبه ذلك مرَّةً واحدةً، قال لهم طالوت‏:‏ مَنْ شرب من النَّهر وأكثر فقد عصى الله، ومن اغترف غرفة بيده أقنعته، فهجموا على النَّهر بعد عطشٍ شديدٍ، ووقع أكثرهم في النَّهر وأكثروا الشُّرب، فهؤلاء جَبُنوا عن لقاء العدو، وأطاع قومٌ قليلٌ عددهم فلم يزيدوا على الاغتراف، فقويت قلوبهم وعبروا النَّهر، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فشربوا منه إلاَّ قليلاً منهم‏}‏ وكانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً ‏{‏فلما جاوزه‏}‏ أَي‏:‏ النَّهر ‏{‏هو والذين آمنوا معه قالوا‏}‏ يعني‏:‏ الذين شربوا وخالفوا أمر الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال‏}‏ يعني‏:‏ القليل الذين اغترفوا وهم ‏{‏الذين يظنون‏}‏ أَيْ‏:‏ يعلمون ‏{‏أنهم ملاقو الله‏}‏ أَيْ‏:‏ راجعون إليه‏:‏ ‏{‏كم مِنْ فئة قليلة‏}‏ أَيْ‏:‏ جماعةٍ قليلةٍ ‏{‏غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين‏}‏ بالمعونة والنَّصر‏.‏

‏{‏ولما برزوا‏}‏ أَيْ‏:‏ خرجوا ‏{‏لجالوت وجنوده‏}‏ أَيْ‏:‏ لقتالهم ‏{‏قالوا ربنا أفرغ‏}‏ أصببْ ‏{‏علينا صبراً وثبت أقدامنا‏}‏ بتقوية قلوبنا‏.‏

‏{‏فهزموهم‏}‏ فردُّوهم وكسروهم ‏{‏بإذن الله‏}‏ بقضائه وقدره ‏{‏وقتل داود‏}‏ النَّبيُّ، وكان في عسكر بني إسرائيل ‏{‏جالوت‏}‏ الكافر ‏{‏وآتاه الله الملك‏}‏ ‏[‏أعطى الله داود ملك بني إسرائيل‏]‏ ‏{‏والحكمة‏}‏ أَيْ‏:‏ جمع له الملك والنُّبوَّة ‏{‏وعلَّمه مما يشاء‏}‏ صنعة الدُّروع ومنطق الطَّير ‏{‏ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض‏}‏ لولا دفع الله بجنود المسلمين لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المؤمنين وخرَّبوا البلاد والمساجد‏.‏

‏{‏تلك آيات الله‏}‏ أَيْ‏:‏ هذه الآيات التي أخبرتك بها آيات الله، أَيْ‏:‏ علامات توحيده ‏{‏وإنك لمن المرسلين‏}‏ أَيْ‏:‏ أنت من هؤلاء الذين قصصتُ عليك آياتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏253- 255‏]‏

‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ‏(‏253‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏254‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ‏(‏255‏)‏‏}‏

‏{‏تلك الرسل‏}‏ أَيْ‏:‏ جماعة الرُّسل ‏{‏فضلنا بعضهم على بعض‏}‏ أَيْ‏:‏ لم نجعلهم سواءً في الفضيلة وإن استووا في القيام بالرِّسالة ‏{‏منهم مَنْ كلَّم الله‏}‏ وهو موسى عليه السَّلام ‏{‏ورفع بعضهم درجات‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم أُرسل إلى النَّاس كافَّةً ‏{‏وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس‏}‏ مضى تفسيره، ‏{‏ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم‏}‏ أَيْ‏:‏ من بعد الرُّسل ‏{‏من بعد ما جاءتهم البينات‏}‏ من بعد ما وضحت لهم البراهين ‏{‏ولكن اختلفوا فمنهم مَنْ آمن‏}‏ ثبت على إيمانه ‏{‏ومنهم مَنْ كفر‏}‏ كالنَّصارى بعد المسيح اختلفوا فصاروا فِرقاً، ثمَّ تحاربوا ‏{‏ولو شاء الله ما اقتتلوا‏}‏ كرَّر ذكر المشيئة باقتتالهم تكذيباً لمن زعم أنَّهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم، لم يجرِ به قضاءٌ من الله ‏{‏ولكنَّ الله يفعل ما يريد‏}‏ فيوفِّقُ مَنْ يشاء فضلاً، ويخذل من يشاء عدلاً‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا ممَّا رزقناكم‏}‏ أَي‏:‏ الزَّكاة المفروضة، وقيل‏:‏ أراد النَّفقة في الجهاد ‏{‏من قبل أن يأتي يومٌ لا بيع فيه‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة‏.‏ يعني‏:‏ لا يؤخذ في ذلك اليوم بدَلٌ ولا فداءٌ ‏{‏ولا خلة‏}‏ ولا صداقةٌ ‏{‏ولا شفاعة‏}‏ عمَّ نفي الشَّفاعة لأنَّه عنى الكافرين بأنَّ هذه الأشياء لا تنفعهم، ألا ترى أنَّه قال‏:‏ ‏{‏والكافرون هم الظالمون‏}‏ أَيْ‏:‏ هم الذين وضعوا أمر الله في غير موضعه‏.‏

‏{‏الله لا إله إلاَّ هو الحي‏}‏ الدَّائم البقاء ‏{‏القيوم‏}‏ القائم بتدبير أمر الخلق في إنشائهم وأرزاقهم ‏{‏لا تأخذه سنة‏}‏ وهي أوَّل النُّعاس ‏{‏ولا نوم‏}‏ وهو الغشية الثَّقيلة ‏{‏له ما في السموات وما في الأرض‏}‏ مِلكاً وخلقاً ‏{‏مَنْ ذا الذي يشفع عنده إلاَّ بإذنه‏}‏ أَيْ‏:‏ لا يشفع عنده أحدٌ إلاَّ بأمره، إبطالاً لزعم الكفَّار أنَّ الأصنام تشفع لهم ‏{‏يعلم ما بين أيديهم‏}‏ من أمر الدُّنيا ‏{‏وما خلفهم‏}‏ من أمر الآخرة‏.‏ ‏{‏ولا يحيطون بشيء من علمه‏}‏ أَيْ‏:‏ لا يعلمون شيئاً من معلوم الله تعالى‏:‏ ‏{‏إلاَّ بما شاء‏}‏ إلاَّ بما أنبأ الله به الأنبياء وأطلعهم عليه ‏{‏وسع كرسيه السموات والأرض‏}‏ أي‏:‏ احتملهما وأطاقهما‏.‏ يعني‏:‏ ملكه وسلطانه‏.‏ وقيل‏:‏ هو الكرسيُّ بعينه، وهو مشتمل بعظمته على السَّموات والأرض‏.‏ وروي عن ابن عباس أنَّ كرسيه علمه‏.‏ ‏{‏ولا يَؤُوْدُهُ‏}‏ أَيْ‏:‏ لا يُجهده ولا يُثقله ‏{‏حفظهما‏}‏ أَيْ‏:‏ حفظ السَّموات والأرض ‏{‏وهو العليُّ‏}‏ بالقدرة ونفوذ السُّلطان عن الأشباه والأمثال ‏{‏العظيم‏}‏ عظيم الشَّأن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏256- 258‏]‏

‏{‏لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏256‏)‏ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏257‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏258‏)‏‏}‏

‏{‏لا إكراه في الدِّين‏}‏ بعد إسلام العرب؛ لأنهم أُكرهوا على الإِسلام فلم يُقبل منهم الجزية؛ لأنَّهم كانوا مشركين، فلمَّا أسلموا أنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ ‏{‏قد تبين الرشد من الغي‏}‏ ظهر الإِيمان من الكفر، والهدى من الضَّلالة بكثرة الحجج ‏{‏فمن يكفر بالطاغوت‏}‏ بالشَّيطان والأصنام ‏{‏ويؤمن بالله‏}‏ واليوم الآخر ‏{‏فقد استمسك‏}‏ أَيْ‏:‏ تمسَّك ‏{‏بالعروة الوثقى‏}‏ عقد لنفسه عقداً وثيقاً، وهو الإِيمان وكلمة الشَّهادتين ‏{‏لا انفصام لها‏}‏ أي‏:‏ لا انقطاع لها ‏{‏والله سميع‏}‏ لدعائك يا محمَّدُ أيَّايَ بإسلام أهل الكتاب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ إسلام أهل الكتاب الذين حول المدينة، ويسأل الله ذلك ‏{‏عليم‏}‏ بحرصك واجتهادك‏.‏

‏{‏والله وليُّ الذين آمنوا‏}‏ أَيْ‏:‏ ناصرهم ومتولِّي أمورهم ‏{‏يخرجهم من الظلمات‏}‏ من الكفر والضَّلالة إلى الإِيمان والهداية ‏{‏والذين كفروا‏}‏ أي‏:‏ اليهود ‏{‏أولياؤهم الطاغوت‏}‏ يعني‏:‏ رؤساءهم كعب بن الأشرف وحُيي بن أخطب ‏{‏يخرجونهم من النور‏}‏ يعني‏:‏ ممَّا كانوا عليه من الإِيمان بمحمدٍ عليه السَّلام قبل بعثه ‏{‏إلى الظلمات‏}‏ إلى الكفر به بعد بعثه‏.‏

‏{‏ألم تر إلى الذي حاجَّ‏}‏ جادل وخاصم ‏{‏إبراهيم في ربه‏}‏ حين قال له‏:‏ مَنْ ربُّك‏؟‏ ‏{‏أن آتاه الله الملك‏}‏ أي‏:‏ الملك الذي آتاه الله‏.‏ يريد‏:‏ بطرُ الملك حمله على ذلك، وهو نمروذ بن كنعان ‏{‏إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت‏}‏ فقال عدو الله‏:‏ ‏{‏أنا أحيي وأميت‏}‏ فعارضه بالاشتراك في العبارة من غير فعل حياةٍ ولا موتٍ، فلما لبَّس في الحجَّة بأنْ قال‏:‏ أنا أفعل ذلك احتجَّ إبراهيم عليه بحجَّةٍ لا يمكنه فيها أن يقول‏:‏ أنا أفعل ذلك، وهو قوله‏:‏ ‏{‏قال إبراهيم فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر‏}‏ أي‏:‏ انقطع وسكت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏259- 260‏]‏

‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏259‏)‏ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏260‏)‏‏}‏

‏{‏أو كالذي مرَّ على قرية‏}‏ ‏[‏عطفٌ على المعنى لا على اللفظ، كأنه قال‏:‏ أرأيت الذي حاجَّ، أو كالذي مرَّ‏]‏ وهو عزيرٌ ‏{‏على قرية‏}‏ وهي إيليا ‏{‏وهي خاوية‏}‏ ساقطةٌ مُتهدِّمةٌ ‏{‏على عروشها‏}‏ أي‏:‏ سقوفها ‏{‏قال‏:‏ أنى يحيي هذه الله‏}‏ أَيْ‏:‏ من أين يُحيي هذه الله ‏{‏بعد موتها‏}‏ يعمرها بعد خرابها‏؟‏‏!‏ استبعد أَنْ يفعل الله ذلك، فأحبَّ الله أن يُريه آيةً في نفسه في إحياء القرية ‏{‏فأماته الله مائة عام‏}‏ وذلك أنه مرَّ بهذه القرية على حمارٍ ومعه ركوة عصيرٍ، وسلةُ تينٍ، فربط حماره، وألقى الله عزَّ وجلَّ عليه النَّوم، فلمَّا نام نزع الله عزَّ وجلَّ روحه مائة سنةٍ، فلمَّا مضت مائة سنةٍ أحياه الله تعالى، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏ثمَّ بعثه‏}‏ ‏{‏قال كم لبثت‏}‏ كم أقمت ومكثت ها هنا‏؟‏ ‏{‏قال‏:‏ لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك‏}‏ أَي‏:‏ التِّين ‏{‏و‏}‏ إلى ‏{‏شرابك‏}‏ أي‏:‏ العصير ‏{‏لم يتسنَّه‏}‏ أَيْ‏:‏ لم يتغيَّر ولم ينتن بعد مائة سنةٍ، وأراه علامة مكثه مائة سنةٍ‏.‏ ببلى عظام حماره، فقال‏:‏ ‏{‏وانظر إلى حمارك‏}‏ فرأى حماره ميتاً، عظامه بيضٌ تلوح ‏{‏ولنجعلك آية للناس‏}‏ الواو زائدة، والمعنى‏:‏ لبثتَ مائة عامٍ لنجعلك آيةً للنَّاس، وكونه آيةً أَنْ بعثه شابّاً أسود الرَّأس واللِّحية، وبنو بنيه شِيبٌ ‏{‏وانظر إلى العظام‏}‏ أَيْ‏:‏ عظام حماره ‏{‏كيف نُنْشِزُها‏}‏ أَيْ‏:‏ نحييها، يقال‏:‏ أَنشرَ اللَّهُ الموتى، وقرئ‏:‏ ‏{‏ننشزها‏}‏ أَيْ‏:‏ نرفعها من الأرض، ونشوز كلِّ شيءٍ‏:‏ ارتفاعه ‏{‏ثم نكسوها لحماً فلما تبيَّن له‏}‏ شاهدَ ذلك ‏{‏قال‏:‏ أعلم أنَّ الله على كلِّ شيء قدير‏}‏ أَيْ‏:‏ أعلم العلم الذي لا يعترض عليه الإِشكال، وتأويله‏:‏ إنِّي قد علمت مُشاهدةً ما كنت أعلمه غيباً‏.‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم ربِّ أرني كيف تحيي الموتى‏}‏ وذلك أنَّه رأى جيفةً ساحل البحر يتناولها سباع الطير والوحش ودوابُّ البحر، ففكَّر كيف يجتمع ما قد تفرَّق منها، وأحبَّ أن يرى ذلك، فسأل الله تعالى أن يُريه إحياء الموتى، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم تؤمن‏}‏ ألست آمنت بذلك‏؟‏ ‏{‏قال بلى ولكن ليطمئن قلبي‏}‏ بالمُعاينة بعد الإِيمان بالغيب ‏{‏قال‏:‏ فخذ أربعة من الطير‏}‏ طاوُساً ونسراً وغراباً وديكاً ‏{‏فصرهنَّ إليك‏}‏ أَيْ‏:‏ قطِّعهنَّ، كأنَّه قال‏:‏ خذ إليك أربعة من الطَّير فقطعهنَّ ‏{‏ثمَّ اجعل على كلِّ جبلٍ منهنَّ جزءاً‏}‏ ثمَّ أُمر أن يخلط ريشها ولحومها، ثمَّ يفرِّق أجزاءها بأن يجعلها على أربعة أجبلٍ ففعل ذلك إبراهيم، وأمسك رؤوسهنَّ عنده، ثمَّ دعاهنَّ فقال‏:‏ تعالين بإذن الله، فجعلت أجزاء الطُّيور يطير بعضها إلى بعض حتى تكاملت أجزاؤها، ثمَّ أقبلن على رؤوسهنّ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏ثم ادعهنَّ يأتينك سعياً واعلم أنّ الله عزيز‏}‏ لا يمتنع عليه ما يريد ‏{‏حكيم‏}‏ فيما يدبِّر، فلمَّا ذكر الدَّلالة على توحيده بما أتى الرُّسل من البيِّنات حثٍّ على الجهاد والإِنفاق فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏261- 265‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏261‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏262‏)‏ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ‏(‏263‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏264‏)‏ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏265‏)‏‏}‏

‏{‏مثلُ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، أَيْ‏:‏ مَثلُ صدقاتهم وإنفاقهم ‏{‏كمثل حبَّةٍ أنبتت سبع سنابل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، يريد أنَّه يضاعف الواحد بسبع مائةٍ، وجعله كالحبَّة تنبت سبع مائة حبَّةٍ، ولا يشترط وجود هذا؛ لأنَّ هذا على ضرب المثل‏.‏

‏{‏الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منَّاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وهو أن يقول‏:‏ أحسنتُ إلى فلانٍ ونعشته، وجبرت خلله، يمنُّ بما فعل ‏{‏ولا أذىً‏}‏ وهو أن يذكر إحسانه لمن لا يحبُّ الذي أُحسن إليه وقوفه عليه‏.‏

‏{‏قول معروفٌ‏}‏ كلامٌ حسنٌ وردٌّ على السَّائل جميل ‏{‏ومغفرة‏}‏ أَيْ‏:‏ تجاوزٌ عن السَّائل إذا استطال عليه عند ردِّه ‏{‏خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذى‏}‏ أَيْ‏:‏ مَنٌّ وتعييرٌ للسَّائل بالسُّؤال، ‏{‏والله غنيٌّ‏}‏ عن صدقة العباد ‏{‏حليم‏}‏ إذ لم يعجِّل بالعقوبة على مَنْ يمنُّ‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم‏}‏ أَيْ‏:‏ ثوابها ‏{‏بالمنِّ‏}‏ وهو أنْ يمنَّ بما أعطى ‏{‏والأذى‏}‏ وهو أن يوبِّخ المُعطي المُعطى له ‏{‏كالذي ينفق‏}‏ أَيْ‏:‏ كإبطاله رياء النَّاس، وهو المُنافق يعطي ليوهم أنَّه مؤمنٌ ‏{‏فمثله‏}‏ أَيْ‏:‏ مَثلُ هذا المنافق ‏{‏كمثل صفوانٍ‏}‏ وهو الحجر الأملس ‏{‏عليه ترابٌ فأصابه وابل‏}‏ مطرٌ شديدٌ ‏{‏فتركه صلداً‏}‏ برَّاقاً أملس‏.‏ وهذا مَثلٌ ضربه الله تعالى للمانِّ والمنافق، يعني‏:‏ إنَّ النَّاس يرون في الظَّاهر أنَّ لهؤلاء أعمالاً كما يُرى التُّراب على هذا الحجر، فإذا كان يوم القيامة اضمحلَّ كلُّه وبطل، كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان، فلا يقدر أحدٌ من الخلق على ذلك التُّراب، كذلك هؤلاء إذا قدموا على ربِّهم لم يجدوا شيئاً، وهو قوله جلَّ وعزَّ‏:‏ ‏{‏لا يقدرون على شيء‏}‏ أَيْ‏:‏ على ثواب شيءٍ ‏{‏مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏ لا يجعل جزاءهم على كفرهم أن يهديهم، ‏[‏ثمَّ ضرب مثلاً لمن ينفق يريد ما عند الله ولا يمنُّ ولا يؤذي فقال‏]‏‏:‏

‏{‏ومَثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً‏}‏ أَيْ‏:‏ يقيناً وتصديقاً ‏{‏من أنفسهم‏}‏ بالثَّواب لا كالمنافق الذي لا يؤمن بالثَّواب ‏{‏كمثل جنة بربوةٍ‏}‏ وهي ما ارتفع من الأرض، وهي أكثر ريعاً من المستفل ‏{‏أصابها وابلٌ‏}‏ وهو أشدُّ المطر ‏{‏فآتت‏}‏ أعطت ‏{‏أكلها‏}‏ ما يؤكل منها ‏{‏ضِعْفَيْن‏}‏ أَيْ‏:‏ حملت في سنة من الرَّيع ما يحمل غيرها في سنتين ‏{‏فإن لم يصبها وابلٌ‏}‏ وهو أشدُّ المطر، وأصابها طلٌّ وهو المطر الضعيف، فتلك حالها في البركة، يقول‏:‏ كما أنَّ هذه الجنَّة تُثمر في كلِّ حالٍ ولا يخيب صاحبها قلَّ المطر أو كَثُر، كذلك يضعف الله ثواب صدقة المؤمن قلَّت نفقته أم كثرت، ثمَّ قرَّر مَثَل المُرائي في النَّفقة والمُفرِّط في الطَّاعة إلى أَنْ يموت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏266- 269‏]‏

‏{‏أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏266‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏267‏)‏ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏268‏)‏ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏269‏)‏‏}‏

‏{‏أيودُّ أحدكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، يقول‏:‏ مثلُهم كمثل رجلٍ كانت له جنَّةٌ فيها من كلِّ الثمرات ‏{‏وأصابه الكبر‏}‏ فضعف عن الكسب، وله أطفال لا يجدون عليه ولا ينفعونه ‏{‏فأصابها إعصار‏}‏ وهي ريحٌ شديدةٌ ‏{‏فيه نارٌ فاحترقت‏}‏ ففقدها أحوج ما كان إليها عند كبر السِّنِّ وكثرة العيال وطفولة الولد، فبقي هو وأولاده عجزةً مُتحيِّرين ‏{‏لا يقدرون على‏}‏ حيلةٍ، كذلك يُبطل الله عمل المنافق والمرائي حتى لا توبة لهما ولا إقالة من ذنوبهما ‏{‏كذلك يبين الله‏}‏ كمثل بيان هذه الأقاصيص ‏{‏يبين الله لكم الآيات‏}‏ في أمر توحيده‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم‏}‏ نزلت في قومٍ كانوا يتصدَّقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم، والمراد بالطَّيِّبات ها هنا الجياد الخيار ممَّا كسبتم، أَيْ‏:‏ التِّجارة ‏{‏وممَّا أخرجنا لكم من الأرض‏}‏ يعني‏:‏ الحبوب التي يجب فيها الزَّكاة ‏{‏ولا تيمموا‏}‏ أَيْ‏:‏ لا تقصدوا ‏{‏الخبيث منه تنفقون‏}‏ أَيْ‏:‏ تنفقونه ‏{‏ولستم بآخذيه إلاَّ أن تغمضوا‏}‏ أَيْ‏:‏ بآخذي ذلك الخبيث لو أُعطيتم في حقٍّ لكم إلاَّ بالإِغماض والتَّساهل، وفي هذا بيانُ أنَّ الفقراء شركاء ربِّ المال، والشَّريك لا يأخذ الرَّديء من الجيِّد إلاَّ بالتَّساهل‏.‏

‏{‏الشيطانُ يعدكم الفقر‏}‏ أَيْ‏:‏ يُخوِّفكم به‏.‏ يقول‏:‏ أَمسك مالك؛ فإنَّك إنْ تصدَّقت افتقرت ‏{‏ويأمركم بالفحشاء‏}‏ بالبخل ومنه الزَّكاة ‏{‏والله يعدكم‏}‏ أَنْ يجازيكم على صدقتكم ‏{‏مغفرة‏}‏ لذنوبكم وأَنْ يُخلف عليكم‏.‏

‏{‏يؤتي الحكمة‏}‏ علم القرآن والفهم فيه‏.‏ وقيل‏:‏ هي النُّبوَّة ‏{‏من يشاء‏}‏‏.‏ ‏{‏وما يذكر إلاَّ أولوا الألباب‏}‏ أَيْ‏:‏ وما يتَّعظ إلاَّ ذوو العقول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏270- 272‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏270‏)‏ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏271‏)‏ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ‏(‏272‏)‏‏}‏

‏{‏وما أنفقتم من نفقة‏}‏ أدَّيتم من زكاة ‏{‏أو نذرتم من نذر‏}‏ في صدقة التَّطوُّع، أَيْ‏:‏ نويتم أن تصَّدَّقوا بصدقة ‏{‏فإن الله يعلمه‏}‏ يجازي عليه ‏{‏وما للظالمين من أنصار‏}‏ وعيدٌ لمَنْ أنفق في غير الوجه الذي يجوز له من رياءٍ أو معصيةٍ، أو من مال مغصوبٍ‏.‏

‏{‏إنْ تبدوا الصدقات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ صدقة السرِّ أفضلُ أم صدقة العلانيَة‏؟‏ فنزلت هذه الآية، والمفسرون على أنَّ هذه الآية في التَّطوُّع لا في الفرض، فإِنَّ الفرضَ إظهاره أفضل، وعند بعضهم الآية عامَّةٌ في كلِّ صدقةٍ، وقوله‏:‏ ‏{‏ويكفر عنكم من سيئاتكم‏}‏ أَيْ‏:‏ يغفرها لكم، و‏"‏ مِنْ ‏"‏ للصلة والتأكيد‏.‏

‏{‏ليس عليك هداهم‏}‏ نزلت حين سألت قُتيلة أمُّ أسماء بنت أبي بكر ابنتها أن تعطيها شيئاً وهي مشركةٌ، فأبت وقالت‏:‏ حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية‏.‏ والمعنى‏:‏ ليس عليك هُدى مَن خالفك فمنعهم الصَّدقة ليدخلوا في الإسلام ‏{‏وما تنفقوا من خيرٍ‏}‏ أَيْ‏:‏ مالٍ‏:‏ ‏{‏فلأنفسكم‏}‏ ثوابه ‏{‏وما تنفقون إلاَّ ابتغاء وجه الله‏}‏ خبرٌ والمراد به الأمر‏.‏ وقيل‏:‏ هو خاصٌّ في المؤمنين، أَي‏:‏ قد علم الله ذلك منكم ‏{‏وما تنفقوا من خيرٍ‏}‏ ‏[‏من مالٍ على فقراء أصحاب الصُّفَّة‏]‏‏.‏ ‏{‏يوفَّ لكم‏}‏ أًيْ‏:‏ يوفَّر لكم جزاؤه ‏{‏وأنتم لا تظلمون‏}‏ أَيْ‏:‏ لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏273- 276‏]‏

‏{‏لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏273‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏274‏)‏ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏275‏)‏ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ‏(‏276‏)‏‏}‏

‏{‏للفقراء‏}‏ أَيْ‏:‏ هذه الصَّدقات والإِنفاق التي تقدَّم ذكرها ‏{‏للفقراء الذين أحصروا‏}‏ أَيْ‏:‏ حُبسوا، أَيْ‏:‏ هم فعلوا ذلك‏.‏ حبسوا أنفسهم ‏{‏في سبيل الله‏}‏ في الجهاد‏.‏ يعني‏:‏ فقراء المهاجرين ‏{‏لا يستطيعون ضرباً‏}‏ أَيْ‏:‏ سيراً ‏{‏في الأرض‏}‏ لا يتفرَّغُون إلى طلب المعاش؛ لأنهم قد ألزموا أنفسهم أمر الجهاد، فمنعهم ذلك من التَّصرُّف، حثَّ الله تعالى المؤمنين على الإِنفاق عليهم ‏{‏يحسبهم الجاهل‏}‏ يخالهم ‏{‏أغنياء من التعفف‏}‏ عن السُّؤال ‏{‏تعرفهم بسيماهم‏}‏ بعلامتهم، التَّخشُّع والتَّواضع وأثر الجهد ‏{‏لا يسألون الناس إلحافاً‏}‏ أَيْ‏:‏ إلحاحاًً‏.‏ إذا كان عندهم غداءٌ لم يسألوا عشاءً، وإذا كان عندهم عَشاءٌ لم يسألوا غداءً‏.‏

‏{‏الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ نزلت في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها، فَتَصدَّق بدرهمٍ سرَّاً، ودرهمٍ علانيةً، ودرهمٍ ليلاً، ودرهمٍ نهاراً‏.‏

‏{‏الذين يأكلون الربا‏}‏ أيْ‏:‏ يُعاملون به، فَنَبَّه بالأكل على غيره ‏{‏لا يقومون‏}‏ من قبورهم يوم القيامة ‏{‏إلاَّ كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطان‏}‏ يصيبه بجنونٍ ‏{‏من المس‏}‏ من الجنون، وذلك أنَّ آكل الرِّبا يُبعث يوم القيامة مجنوناً ‏{‏ذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ ذلك الذي نزل بهم ‏{‏بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا‏}‏ وهو أنَّ المشركين قالوا‏:‏ الزِّيادة على رأس المال بعد مَحِلِّ الدَّين كالزِّيادة بالرِّبح في أوَّل البيع، فكذَّبهم الله تعالى فقال‏:‏ ‏{‏وأحلَّ الله البيع وحرَّم الربا فمن جاءه موعظة من ربه‏}‏ أَيْ‏:‏ وُعظ ‏{‏فانتهى‏}‏ عن أكل الرِّبا ‏{‏فله ما سلف‏}‏ أَّيْ‏:‏ ما أكل من الرِّبا، ليس عليه ردُّ ما أخذ قبل النَّهي ‏{‏وأمره إلى الله‏}‏ والله وليُّ أمره ‏{‏ومَنْ عاد‏}‏ إلى استحلال الرِّبا ‏{‏فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏‏.‏

‏{‏يمحق الله الربا‏}‏ أَيْ‏:‏ ينقصه ويذهب بركته وإن كان كثيراً، كما يمحق القمر ‏{‏ويربي الصدقات‏}‏ يربيها لصاحبها كما يُربي أحدكم فصيله ‏{‏والله لا يحبُّ كل كفار‏}‏ بتحريم الرِّبا مستحلٍّ له ‏{‏أثيم‏}‏ فاجر بأكله ‏[‏مُصِرٍّ عليه‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏278- 282‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏278‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ‏(‏279‏)‏ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏280‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏281‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏282‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا‏}‏ نزلت في العباس وعثمان رضي الله عنهما طلباً رباً لهما كانا قد أسلفا قبل نزول التَّحريم، فلمَّا نزلت هذه الآية سمعا وأطاعا، وأخذا رؤوس أموالهما، ومعنى الآية‏:‏ تحريم ما بقي ديناً من الرِّبا، وإيجاب أخذ رأس المال دون الزِّيادة على جهة الرِّبا، وقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ أَيْ‏:‏ إنَّ مَنْ كان مؤمناً فهذا حكمه‏.‏

‏{‏فإن لم تفعلوا‏}‏ فإن لم تذروا ما بقي من الرِّبا ‏{‏فأذنوا‏}‏ فاعلموا ‏{‏بحرب من الله ورسوله‏}‏ أَيْ‏:‏ فأيقنوا أنَّكم في امتناعكم من وضع ذلك حربٌ لله ورسوله ‏{‏وإن تبتم‏}‏ عن الرِّبا ‏{‏فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون‏}‏ بطلب الزِّيادة ‏{‏ولا تُظلمون‏}‏ بالنُّقصان عن رأس المال‏.‏

‏{‏وإنْ كان ذو عسرة‏}‏ أَيْ‏:‏ وإن وقع غريم ذو عسرة‏]‏ ‏{‏فنظرةٌ‏}‏ أَيْ‏:‏ فعليكم نظرةٌ، أَيْ‏:‏ تأخيرٌ ‏{‏إلى ميسرة‏}‏ إلى غنىً ووجود المال ‏{‏وأن تصدقوا‏}‏ على المعسرين برأس المال ‏{‏خيرٌ لكم‏}‏‏.‏

‏{‏واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة تُرَدُّون فيه إلى الله ‏{‏ثمَّ توفى كلُّ نفسٍ ما كسبت‏}‏ أَيْ‏:‏ جزاء ما كسبت من الأعمال ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ لا ينقصون شيئاً، فلمَّا حرَّم الله تعالى الرِّبا أباح السِّلَم فقال‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مُسمَّىً‏}‏ أَيْ‏:‏ تبايعتم بدين ‏{‏فاكتبوه‏}‏ أمرَ الله تعالى في الحقوق المؤجَّلة بالكتابة والإِشهاد في قوله‏:‏ ‏{‏واشهدوا إذا تبايعتم‏}‏ حفظاً منه للأموال ثمَّ نسخ ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فإن أمن بعضكم بعضاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ‏{‏وليكتب بينكم‏}‏ بين المُستدين والمدين ‏{‏كاتب بالعدل‏}‏ بالحقِّ والإِنصاف، ولا يزيد في المال والأجل ولا ينقص منهما‏:‏ ‏{‏ولا يَأْبَ كاتبٌ أن يكتب‏}‏ أي‏:‏ لا يمتنع من ذلك إذا أُمر وكانت هذه عزيمةً من الله واجبة على الكاتب والشَّاهد، فنسخها قوله‏:‏ ‏{‏ولا يضارَّ كاتب ولا شهيدٌ‏}‏ ثمَّ قال‏:‏ ‏{‏كما علَّمه الله فليكتب‏}‏ أَيْ‏:‏ كما فضَّله الله بالكتابة ‏{‏وليملل الذي عليه الحق‏}‏ أَيْ‏:‏ الذي عليه الدِّين يملي؛ لأنَّه المشهود عليه فيقرُّ على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه ‏{‏ولا يَبْخَسْ منه شيئاً‏}‏ أُمِرَ أَنْ يُقِرَّ بمبلغ المال من غير نقصان ‏{‏فإن كان الذي عليه الحقُّ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ الدَّين‏]‏ ‏{‏سفيهاً‏}‏ طفلاً ‏{‏أو ضعيفاً‏}‏ عاجزاً أحمق ‏{‏أو لا يستطيع أن يملَّ هو‏}‏ لخرسٍ أو لعيٍّ ‏{‏فليملل وليه‏}‏ وارثه أو مَنْ يقوم مقامه ‏{‏بالعدل‏}‏ بالصدق والحقِّ ‏{‏واستشهدوا‏}‏ وأشهدوا ‏{‏شهيدين من رجالكم‏}‏ أَيْ‏:‏ من أهل ملَّتكم من الأحرار البالغين، وقوله‏:‏ ‏{‏ممن ترضون من الشهداء‏}‏ أَيْ‏:‏ من أهل الفضل والدِّين ‏{‏أن تضلّ أحداهما‏}‏ تنسى إحداهما ‏{‏فتذكر إحداهما الأخرى‏}‏ الشَّهادة ‏{‏ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا‏}‏ لتحمُّل الشَّهادة وأدائها ‏{‏ولا تسأموا أن تكتبوه‏}‏ لا يمنعكم الضَّجر والملالة أن تكتبوا ما أشهدتم عليه من الحقِّ ‏{‏صغيراً أو كبيراً إلى أجله‏}‏ إلى أجل الحقِّ ‏{‏ذلكم‏}‏ أَيْ‏:‏ الكتابة ‏{‏أقسط‏}‏ أعدل ‏{‏عند الله‏}‏ في حمكه ‏{‏وأقوم‏}‏ أبلغ في الاستقامة ‏{‏للشهادة‏}‏ لأنَّ الكتاب يُذكِّر الشُّهود، فتكون شهادتهم أقوم ‏{‏وأدنى ألا ترتابوا‏}‏ أيْ‏:‏ أقرب إلى أن لا تشكُّوا في مبلغ الحقِّ والأجل ‏{‏إلاَّ أن تكون‏}‏ تقع ‏{‏تجارة حاضرة‏}‏ أَيْ‏:‏ متجرٌ فيه حاضر من العروض وغيرها ممَّا يتقابض، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏تديرونها بينكم‏}‏ وذلك أنَّ ما يُخاف في النَّساء والتأجيل يؤمن في البيع يداً بيدٍ، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناحٌ إلاَّ تكتبوها وأَشْهِدوا إذا تبايعتم‏}‏ قد ذكرنا أنَّ هذا منسوخ الحكم فلا يجب ذلك ‏{‏ولا يضارَّ كاتب ولا شهيد‏}‏ نهى الله تعالى الكاتب والشَّاهد عن الضِّرار، وهو أن يزيد الكاتب أو ينقص أو يحرِّف، وأن يشهد الشَّاهد بما لم يُستشهد عليه، أو يمتنع من إقامة الشَّهادة ‏{‏وإنْ تفعلوا‏}‏ شيئاً من هذا ‏{‏فإنه فسوق بكم‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏283- 286‏]‏

‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏283‏)‏ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏284‏)‏ آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏285‏)‏ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏286‏)‏‏}‏

‏{‏وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، أمر الله تعالى عند عدم الكاتب بأخذ الرَّهن ليكون وثيقةً بالأموال، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَرِهَانٌ مقبوضة‏}‏ أَيْ‏:‏ فالوثيقةُ رهنٌ مقبوضةٌ ‏{‏فإن أَمن بعضكم بعضاً‏}‏ أَيْ‏:‏ لم يخف خيانته وجحوده الحقَّ ‏{‏فليؤدّ الذي اؤتمن‏}‏ أَيْ‏:‏ أُمن عليه ‏{‏أمانته وليتق الله ربه‏}‏ بأداء الأمانة ‏{‏ولا تكتموا الشهادة‏}‏ إذا دُعيتم لإِقامتها ‏{‏ومن يكتمها فإنه آثمٌ‏}‏ فاجرٌ ‏{‏قلبه‏}‏‏.‏

‏{‏لله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ ملكاً، فهو مالك أعيانه ‏{‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله‏}‏ ‏"‏ لمَّا نزل هذا جاء ناس من الصَّحابة إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ كُلِّفنا من العمل ما لا نطيق، إن أحدنا ليحدِّث نفسه بما لا يحبُّ أن يثبت في قلبه، فنحن نحاسب بذلك‏؟‏ فقال النبيُّ‏:‏ فلعلَّكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل‏:‏ سمعنا وعصينا، وقولوا‏:‏ سمعنا وأطعنا فقالوا‏:‏ سمعنا وأطعنا ‏"‏، فأنزل الله تعالى الفرج بقوله‏:‏ ‏{‏لا يكلِّف الله نفساً إلاَّ وسعها‏}‏ فنسخت هذه الآية ما قبلها، وقيل‏:‏ إنَّ هذا في كتمان الشَّهادة وإقامتها، ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏يحاسبكم به الله‏}‏ يخبركم به ويُعرِّفكم إيَّاه‏.‏

‏{‏آمن الرسول‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، لمَّا ذكر الله تعالى في هذه السُّورة الأحكام والحدود، وقصص الأنبياء وآيات قدرته، ختم السورة بذكر تصديق نبيِّه عليه السَّلام والمؤمنين بجميع ذلك، ‏{‏لا نفرق بين أحد‏}‏ أَيْ‏:‏ يقولون‏:‏ لا نفرِّق بين أحد من رسله كما فعل أهل الكتاب، آمنوا ببعض الرُّسل وكفروا ببعض، بل نجمع بينهم في الإِيمان بهم ‏{‏وقالوا سمعنا‏}‏ قوله ‏{‏وأطعنا‏}‏ أمره ‏{‏غفرانك‏}‏ أَيْ‏:‏ اغفر غفرانك‏.‏

‏{‏لا يكلف الله نفساً إلاَّ وسعها‏}‏ ذكرنا أنَّ هذه الآية نسخت ما شكاه المؤمنون من المحاسبة بالوسوسة وحديث النَّفس ‏{‏لها ما كسبت‏}‏ ‏[‏من العمل بالطاعة‏]‏ ‏{‏وعليها ما اكتسبت‏}‏ ‏[‏من العمل بالإثم‏]‏ أَيْ‏:‏ لا يُؤَاخَذ أحدٌ بذنب غيره ‏{‏ربنا لا تؤاخذنا‏}‏ أَيْ‏:‏ قولوا ذلك على التَّعليم للدُّعاء، ومعناه‏:‏ لا تعاقبنا إن نسينا‏.‏ كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئاً ممَّا شرع لهم عُجِّلت لهم العقوبة بذلك، فأمر الله نبيَّه والمؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك ‏{‏أو أَخْطأْنا‏}‏ تركنا الصَّواب‏:‏ ‏{‏ربنا ولا تحمل علينا إصراً‏}‏ أَيْ‏:‏ ثقلاً، والمعنى‏:‏ لا تحمل علينا أمراً يثقل ‏{‏كما حملته على الذين من قبلنا‏}‏ نحو ما أُمر به بنو إسرائيل من الأثقال التي كانت عليهم ‏{‏ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به‏}‏ أَيْ‏:‏ لا تعذِّبنا بالنَّار ‏{‏أنت مولانا‏}‏ ‏[‏ناصرنا‏]‏ والذي تلي علينا أمورنا ‏{‏فانصرنا على القوم الكافرين‏}‏ في إقامة حجَّتنا وغلبتنا إيَّاهم في حربه، وسائر أمورهم حتى يظهر ديننا على الدِّين كلِّه كما وعدتنا‏.‏

سورة آل عمران

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ‏(‏2‏)‏ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏3‏)‏ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏4‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏5‏)‏ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏الم‏}‏‏.‏

‏{‏الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيوم‏}‏‏.‏

‏{‏نزل عليك الكتابَ‏}‏ أي‏:‏ القرآن ‏{‏بالحق‏}‏ بالصِّدق في إخباره ‏{‏مصدقاً لما بين يديه‏}‏ مُوافقاً لما تقدَّم الخبر به في سائر الكتب ‏{‏وأنزل التوراة والإِنجيل‏}‏‏.‏

‏{‏من قبل هدىً للناس وأنزل الفرقان‏}‏ ما فرق به بين الحقِّ والباطل‏.‏ يعني‏:‏ جميع الكتب التي أنزلها‏.‏ ‏{‏إنَّ الذين كفروا بآيات الله لهم عذابٌ شديدٌ والله عزيز ذو انتقام‏}‏ ذو عقوبة‏.‏

‏{‏هو الذي يصوركم‏}‏ يجعلكم على صورٍ في أرحام الأُمَّهات ‏{‏كيف يشاء‏}‏ ذكراً وأنثى، قصيراً وطويلاً، وأسود وأبيض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 11‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏7‏)‏ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ‏(‏8‏)‏ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ‏(‏10‏)‏ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏هو الذي أنزل عليك الكتابَ منه آيات محكماتٌ‏}‏ وهنَّ الثَّلاث الآيات في آخر سورة الأنعام‏:‏ ‏{‏قل تعالوا أتل‏}‏ إلى آخر الآيات الثَّلاث ‏{‏هنَّ أمُّ الكتاب‏}‏ هنَّ أمُّ كلِّ كتاب أنزله الله تعالى على كلِّ نبيٍّ، فيهنَّ كلُّ ما أحلَّ وحرَّم، ومعناه‏:‏ أنهنَّ أصل الكتاب الذي يُعمل عليه ‏{‏وأخر‏}‏ أَيْ‏:‏ آياتٌ أُخر ‏{‏متشابهات‏}‏ يريد‏:‏ التي تشابهت على اليهود، وهي حروف التَّهجِّي في أوائل السُّور، وذلك أنَّهم أوَّلوها على حساب الجُمَّل، وطلبوا أن يستخرجوا منها مدَّة بقاء هذه الأُمَّة، فاختلط عليهم واشتبه ‏{‏فأمَّا الذين في قلوبهم زيغٌ‏}‏ وهم اليهود الذين طالبوا علمَ أجل هذه الأمَّة من الحروف المقطَّعة ‏{‏فيتبعون ما تشابه منه‏}‏ من الكتاب‏.‏ يعني‏:‏ حروف التَّهجِّي ‏{‏ابتغاء الفتنة‏}‏ طلب اللَّبس ليضلُّوا به جُهَّالهم ‏{‏وابتغاء تأويله‏}‏ طلب أجل أمَّة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وما يعلم تأويله إلاَّ الله‏}‏ يريد‏:‏ ما يعلم انقضاء ملك أمَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلاَّ الله، لأنَّ انقضاء ملكهم مع قيامِ السَّاعة، ولا يعلم ذلك أحد إلاَّ الله، ثمَّ ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏والراسخون في العلم‏}‏ أَي‏:‏ الثَّابتون فيه‏.‏ يعني‏:‏ علماء مؤمني أهل الكتاب ‏{‏يقولون آمنا به‏}‏ أَيْ‏:‏ بالمتشابه ‏{‏كلٌّ من عند ربنا‏}‏ المحكم والمتشابه، وما علمناه، وما لم نعلمه ‏{‏وما يذكر إلاَّ أولوا الألباب‏}‏ ما يتعَّظ بالقرآن إلاَّ ذوو العقول‏.‏

‏{‏ربنا‏}‏ أي‏:‏ ويقول الرَّاسخون في العلم ‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا‏}‏ لا تُملها عن الهدى والقصد كما أزغت قلوب الذين في قلوبهم زيغ ‏{‏بعد إذ هديتنا‏}‏ للإِيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك‏.‏

‏{‏ربنا إنك جامع الناس‏}‏ حاشرهم ‏{‏ليوم‏}‏ الجزاء في يومٍ ‏{‏لا ريب فيه إنَّ الله لا يخلف الميعاد‏}‏ للبعث والجزاء‏.‏

‏{‏إنَّ الذين كفروا‏}‏ يعني‏:‏ يهود قريظة والنَّضير ‏{‏لن تغني عنهم‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ لن تنفع و‏]‏ لن تدفع عنهم ‏{‏أموالهم‏}‏ ‏{‏ولا أولادهم‏}‏ يعني‏:‏ التي يتفاخرون بها ‏{‏من الله‏}‏ من عذاب الله ‏{‏شيئاً وأولئك هم وقود النار‏}‏ هم الذين تُوقد بهم النَّار‏.‏

‏{‏كدأب آل فرعون‏}‏ كصنيع آل فرعون وفعلهم في الكفر والتَّكذيب كفرت اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏12‏)‏ قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏13‏)‏ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏قل للذين كفروا‏}‏ يعني‏:‏ يهود المدينة ومشركي مكَّة ‏{‏ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد‏}‏ بئس ما مُهِّد لكم‏.‏

‏{‏قد كان لكم آية‏}‏ علامة تدلُّ على صدق محمَّدٍ عليه السَّلام ‏{‏في فئتين‏}‏ يعني‏:‏ المسلمين والمشركين ‏{‏التقتا‏}‏ اجتمعتا يوم بدرٍ للقتال ‏{‏فئةٌ تقاتل في سبيل الله‏}‏ وهم المسلمون ‏{‏وأخرى كافرة يرونهم مثليهم‏}‏ وهم كانوا ثلاثة أمثالهم، ولكنَّ الله تعالى قلَّلهم في أعينهم، وأراهم على قدر ما أعلمهم أنَّهم يغلبونهم لتقوى قلوبهم، وذلك أنَّ الله عزَّ وجلَّ كان قد أعلم المسلمين أنَّ المائة منهم تغلب المائتين من الكفَّار ‏{‏رأي العين‏}‏ أَيْ‏:‏ من حيث يقع عليهم البصر ‏{‏والله يؤيد‏}‏ يقوّي ‏{‏بنصره‏}‏ بالغلبة والحجَّة مَنْ يشاء ‏{‏إنَّ في ذلك لعبرة‏}‏ وهي الآية التي يُعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم ‏{‏لأولي الأبصار‏}‏ لذوي العقول‏.‏

‏{‏زُيِّن للناس حبُّ الشهوات‏}‏ جمع الشَّهوة، وهي تَوَقَانُ النَّفس إلى الشَّيء ‏{‏والقناطير المقنطرة‏}‏ الأموال الكثيرة المجموعة ‏{‏والخيل المسوَّمة‏}‏ الرَّاعية، وقيل‏:‏ المُعلَّمة كالبلق وذوات الشِّياتِ، وقيل‏:‏ الحسان‏.‏ والخيل‏:‏ الأفراس ‏{‏والأنعام‏}‏ الإِبل والبقر والغنم ‏[‏‏{‏والحرث‏}‏ وهو ما يُزرع ويغرس‏]‏، ثمَّ بيَّن أنَّ هذه الأشياء متاع الدُّنيا، وهي فانيةٌ زائلةٌ ‏{‏واللَّهُ عنده حسن المآب‏}‏ المرجع، ثمَّ أعلم أنَّ خيراً من ذلك كلِّه ما أعدَّه لأوليائه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 19‏]‏

‏{‏قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏15‏)‏ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏16‏)‏ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ‏(‏17‏)‏ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏18‏)‏ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏قل أؤنبئكم بخير من ذلكم‏}‏ الذي ذكرت ‏{‏للذين اتقوا‏}‏ الشِّرك ‏{‏جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد‏}‏‏.‏

‏{‏الصابرين‏}‏ على دينهم وعلى ما أصابهم ‏{‏والصادقين‏}‏ في نيَّاتهم ‏{‏والقانتين‏}‏ المطيعين لله ‏{‏والمنفقين‏}‏ من الحلال في طاعة الله ‏{‏والمستغفرين بالأسحار‏}‏ المُصلِّين صلاة الصُّبح قيل‏:‏ نزلت في المهاجرين والأنصار‏.‏

‏{‏شهد الله‏}‏ بيَّن وأظهر بما نصب من الأدلَّة على توحيده ‏{‏أنَّه لا إله إلاَّ هو والملائكة‏}‏ أَيْ‏:‏ وشهدت الملائكة، بمعنى‏:‏ أقرَّت بتوحيد الله ‏{‏وأولوا العلم‏}‏ هم الأنبياء والعلماء من مؤمني أهل الكتاب والمسلمين ‏{‏قائماً بالقسط‏}‏ أَيْ‏:‏ قائماً بالعدل، يُجري التَّدبير على الاستقامة في جميع الأمور‏.‏

‏{‏إنَّ الدين عند الله الإِسلام‏}‏ افتخر المشركون بأديانهم، فقال كلُّ فريقٍ‏:‏ لا دين إلاَّ ديننا، وهو دين الله، فنزلت هذه الآية وكذَّبهم الله تعالى فقال‏:‏ ‏{‏إنَّ الدين عند الله الإِسلام‏}‏ الذي جاء به محمَّدٌ عليه السَّلام ‏{‏وما اختلف الذين أوتوا الكتاب‏}‏ أَي‏:‏ اليهود، لم يختلفوا في صدق نبوَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لما كانوا يجدونه في كتابهم ‏{‏إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم‏}‏ يعني‏:‏ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، سمِّي علماً لأنَّه كان معلوماً عندهم بنعته وصفته قبل بعثه، فلمَّا جاءهم اختلفوا فيه؛ فآمن به بعضهم وكفر الآخرون ‏{‏بغياً بينهم‏}‏ طلباً للرِّياسة وحسداً له على النُّبوَّة ‏{‏ومن يكفر بآيات الله فإنَّ الله سريع الحساب‏}‏ أَي‏:‏ المجازاة له على كفره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 24‏]‏

‏{‏فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏20‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏21‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏22‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏23‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏فإن حاجوك‏}‏ أَيْ‏:‏ جادلوك ‏{‏فقل أسلمتُ وجهي لله‏}‏ أَيْ‏:‏ أخلصت عملي لله وانقدت له ‏{‏ومن اتبعني‏}‏ يعني‏:‏ المهاجرين والأنصار ‏{‏وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين‏}‏ يعني‏:‏ العرب ‏{‏أأسلمتم‏}‏ استفهامٌ معناه الأمر‏:‏ أَيْ‏:‏ أسلموا، وقوله‏:‏ ‏{‏عليك البلاغ‏}‏ أَي‏:‏ التَّبليغ وليس عليك هداهم ‏{‏والله بصيرٌ بالعباد‏}‏ أيْ‏:‏ بمَنْ آمن بك وصدَّقك، ومَنْ كفر بك وكذَّبك، وكان هذا قبل أنْ أُمر بالقتال‏.‏

‏{‏إنَّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق‏}‏ قد مضى تفسيره في سورة البقرة، وقوله ‏{‏ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ قتلت بنو إسرائيل ثلاثةً وأربعين نبياً من أوَّل النَّهار في ساعةٍ واحدةٍ، فقام مائةٌ واثنا عشر رجلاً من عبَّاد بني إسرائيل، فأمروا مَنْ قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فَقُتلوا جميعاً من آخر النَّهار في ذلك اليوم، فهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية ‏"‏ وهؤلاء الذين كانوا في عصر النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانوا يتولَّونهم، فهم داخلون في جملتهم‏.‏

‏{‏أولئك الذين حبطت أعمالهم‏}‏ بطلت أعمالهم التي يدَّعونها من التَّمسُّك بالتَّوراة، وإقامة شرع موسى عليه السَّلام ‏{‏في الدنيا‏}‏ لأنَّها لم تحقن دماءَهم وأموالهم ‏{‏و‏}‏ في ‏{‏الآخرة‏}‏ لأنَّهم لم يستحقوا بها ثواباً‏.‏

‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ اليهود ‏{‏يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم‏}‏ وذلك أنَّهم أنكروا آية الرَّجم من التَّوراة، ‏"‏ وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حدِّ المحصنين إذا زنيا، فحكم بالرَّجم فقالوا‏:‏ جُرْتَ يا محمد، فقال‏:‏ بيني وبينكم التَّوراة، ثمَّ أتوا بابن صوريا الأعور فقرأ التَّوراة، فلمَّا أتى على آية الرَّجم سترها بكفِّه، فقام ابن سلاَّم فرفع كفَه عنها، وقرأها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اليهود، فغضبت اليهود لذلك غضباً شديداً وانصرفوا ‏"‏، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ ‏{‏ثمَّ يتولى فريق منهم‏}‏ يعني‏:‏ العلماء والرؤساء ‏{‏وهم معرضون‏}‏‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أَْيْ‏:‏ ذلك الإِعراض عن حكمك بسبب اغترارهم حيث قالوا‏:‏ ‏{‏لن تمسنا النار إلاَّ أياماً معدودات وغرَّهم في دينهم ما كانوا يفترون‏}‏ افتراؤهم، وهو قوله‏:‏ ‏{‏لن تمسنا النار‏}‏ وقد مضى هذا في سورة البقرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏

‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏26‏)‏ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏فكيف إذا جمعناهم‏}‏ أَيْ‏:‏ فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم ‏{‏ل‏}‏ جزاء ‏{‏يومٍ لا ريبَ فيه ووفيت كلُّ نفس‏}‏ جزاء ‏{‏ما كسبت وهم لا يظلمون‏}‏ بنقصان حسناتهم أو زيادة سيئاتهم‏.‏

‏{‏قل اللهم مالك الملك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ‏"‏ لمَّا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكَّة، ووعد أُمَّته ملك فارس والروم قالت المنافقون واليهود‏:‏ هيهات هيهات، ‏[‏الفارس والروم أعزُّ وأمنع من أن يُغلَّب على بلادهم‏]‏ ‏"‏، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏تؤتي الملك مَنْ تشاء‏}‏ محمداً وأصحابه ‏{‏وتنزع الملك ممن تشاء‏}‏ أبي جهلٍ وصناديد قريشٍ ‏{‏وتعزُّ من تشاء‏}‏ المهاجرين والأنصار ‏{‏وتذلُّ مَنْ تشاء‏}‏ أبا جهلٍ وأصحابه حتى حُزَّت رؤوسهم وأُلْقُوا في القليب ‏{‏بيدك الخير‏}‏ أَيْ‏:‏ عزُّ الدُّنيا والآخرة، وأراد‏:‏ الخير والشَّرَّ، فاكتفى بذكر الخير، لأنَّ الرغبة إليه في فعل الخير بالعبد دون الشَّر‏.‏

‏{‏تولج الليل في النهار‏}‏ تُدخل اللَّيل في النَّهار، أَيْ‏:‏ تجعل ما نقص من أحدهما زيادةً في الآخر ‏{‏وتخرج الحيَّ من الميت وتخرج الميت من الحيِّ‏}‏ تخرج الحيوان من النُّطفة، وتخرج النُّطفة من الحيوان، وتخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن ‏{‏وترزق من تشاء بغير حساب‏}‏ بغير تقتيرٍ وتضييقٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏28‏)‏ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏}‏ أَيْ‏:‏ أنصاراً وأعواناً من غير المؤمنين وسواهم، نزلت في قومٍ من المؤمنين كانوا يُباطنون اليهود، ‏[‏أي‏:‏ يألفونهم‏]‏ ويوالونهم‏.‏ ‏{‏ومَنْ يفعل ذلك‏}‏ الاتخِّاذ ‏{‏فليس من الله في شيء‏}‏ أَيْ‏:‏ من دين الله، أَيْ‏:‏ قد برئ من الله وفارق دينه، ثمَّ استثنى فقال‏:‏ ‏{‏إلاَّ أن تتقوا منهم تقاة‏}‏ ‏[‏أَيْ‏:‏ تقيَّة‏]‏ هذا في المؤمن إذا كان في قومٍ كفَّارٍ، وخافهم على ماله ونفسه، فله أن يُخالفهم ويُداريهم باللِّسان، وقلبُه مطمئنٌّ، بالإِيمان دفعاً عن نفسه‏.‏ قال ابنُ عبَّاسٍ‏:‏ يريد مدارةً ظاهرةً ‏{‏ويحذركم الله نفسه‏}‏ أَيْ‏:‏ يُخَوِّفكم الله على موالاة الكفار عذاب نفسه، ‏[‏يريد‏:‏ عذابه، وخصَّصه بنفسه تعظيماً له‏]‏ فلمَّا نهى عن ذلك خوَّف وحذَّر عن إبطان موالاتهم، فقال‏:‏

‏{‏قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه‏}‏ من ضمائركم في موالاتهم وتركها ‏{‏يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض‏}‏ إتمامٌ للتَّحذير؛ لأنَّه إذا كان لا يخفى عليه شيء فيهما، فكيف يخفى عليه الضَّمير‏؟‏ ‏{‏واللَّهُ على كلِّ شيءٍ قدير‏}‏ تحذيرٌ من عقاب مَنْ لا يعجزه شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 33‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏30‏)‏ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏31‏)‏ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏يوم تجد كلُّ نفسٍ‏}‏ أَيْ‏:‏ ويحذّركم الله عذاب نفسه يوم تجد، أَيْ‏:‏ في ذلك اليوم، وقوله‏:‏ ‏{‏ما عملت من خير محضراً‏}‏ أَيْ‏:‏ جزاء ما عملت بما ترى من الثَّواب ‏{‏وما عملت من سوء تودُّ لو أنَّ بينها وبينه أمداً بعيداً‏}‏ غاية بعيدةً كما بين المشرق والمغرب‏.‏

‏{‏قل‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ للكفَّار‏]‏ ‏{‏إن كنتم تحبون الله‏}‏‏.‏ وقف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على قريشٍ وهم يسجدون للأصنام، فقال‏:‏ يا معشر قريش، واللَّهِ لقد خالفتم ملَّة أبيكم إبراهيم، فقالت قريش‏:‏ إنَّما نعبد هذه حبّاً لله ليقرِّبونا إلى الله، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد ‏{‏إن كنتم تحبون الله‏}‏ وتعبدون الأصنام لتقرِّبكم إليه ‏{‏فاتبعوني يحببكم الله‏}‏ فأنا رسوله إليكم، وحجَّته عليكم، ومعنى محبَّة العبد لله سبحانه إرادته طاعته وإيثاره أمره، ومعنى محبَّة الله العبد إرادته لثوابه وعفوه عنه وإنعامه عليه‏.‏

‏{‏قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا‏}‏ عن الطَّاعة ‏{‏فإنَّ الله لا يحب الكافرين‏}‏ لا يغفر لهم ولا يثني عليهم‏.‏

‏{‏إنَّ الله اصطفى آدم‏}‏ بالنُّبوَّة والرِّسالة ‏{‏ونوحاً وآل إبراهيم‏}‏ يعني‏:‏ إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ‏{‏وآل عمران‏}‏ موسى وهارون ‏{‏على العالمين‏}‏ على عالمي زمانهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 37‏]‏

‏{‏ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏34‏)‏ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏35‏)‏ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏36‏)‏ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏ذريةً‏}‏ أَي‏:‏ اصطفى ذريَّةً ‏{‏بعضها من بعض‏}‏ أَيْ‏:‏ من ولد بعض؛ لأنَّ الجميع ذريَّة آدم، ثمَّ ذريَّة نوح ‏{‏والله سميع‏}‏ لما تقوله الذُّريَّة المصطفاة ‏{‏عليمٌ‏}‏ بما تضمره، فلذلك فضَّلها على غيرها‏.‏

‏{‏إذ قالت امرأة عمران‏}‏ وهي حنَّة أمُّ مريم‏:‏ ‏{‏إني نذرت لك ما في بطني‏}‏ أيْ‏:‏ أوجبتُ على نفسي أن أجعل ما في بطني ‏{‏محرَّراً‏}‏ عتيقاً خالصاً لله، خادماً للكنيسة، مفرَّغاً للعبادة ولخدمة الكنيسة، وكان على أولادهم فرضاً أن يُطيعوهم في نذرهم، فتصدَّقت بولدها على بيت المقدس‏.‏

‏{‏فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى‏}‏ اعتذرت ممَّا فعلت من النَّذر لمَّا ولدت أنثى ‏{‏وليس الذكر كالأنثى‏}‏ في خدمة الكنيسة لما يلحقها من الحيض والنِّفاس ‏{‏وإني أعيذها بك‏}‏ أَيْ‏:‏ أمنعها وأجيرها ‏{‏من الشيطان الرجيم‏}‏ الملعون المطرود‏.‏

‏{‏فتقبلها ربُّها بقبول حسن‏}‏ أَيْ‏:‏ رضيها مكان المحرَّر الذي نذرته ‏{‏وأنبتها نباتاً حسناً‏}‏ في صلاحٍ وعفَّةٍ ومعرفةٍ بالله وطاعةٍ له ‏{‏وكفلها زكريا‏}‏ ضمن القيام بأمرها، فبنى لها محراباً في المسجد لا يرتقى إليه إلاَّ بسلَّم، والمحراب‏:‏ الغرفة، وهو قوله‏:‏ ‏{‏كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً‏}‏ أَيْ‏:‏ فاكهة الشِّتاء في الصَّيف، وفاكهة الصَّيف في الشِّتاء تأتيها به الملائكة من الجنَّة، فلمَّا رأى زكريا ما أُوتيت مريم من ‏[‏فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف‏]‏ على خلاف مجرى العادة طمع في رزق الولد من العاقر على خلاف العادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 44‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏38‏)‏ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏39‏)‏ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ‏(‏40‏)‏ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏41‏)‏ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ‏(‏42‏)‏ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏هنالك‏}‏ أَيْ‏:‏ عند ذلك ‏{‏دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك‏}‏ أَيْ‏:‏ من عندك ‏{‏ذريةً طيبةً‏}‏ أَيْ‏:‏ نسلاً مباركاً تقيّاً، فأجاب الله دعوته وبعث إليه الملائكة مبشرين، وهو قوله‏:‏

‏{‏فنادته الملائكة وهو قائمٌ يصلي في المحراب أنَّ الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله‏}‏ أَيْ‏:‏ مُصدِّقاً بعيسى أنَّه روح الله وكلمته، وسُمِّي عيسى كلمة الله؛ لأنَّه حدث عند قوله‏:‏ ‏{‏كُنْ‏}‏ فوقع عليه اسم الكلمة؛ لأنَّه بها كان ‏{‏وسيداً‏}‏ وكريماً على ربِّه ‏{‏وحصوراً‏}‏ وهو الذي لا يأتي النِّساء ولا أرب له فيهنَّ‏.‏

‏{‏قال‏}‏ زكريا لمَّا بُشِّر بالولد‏:‏ ‏{‏ربِّ أنى يكون لي غلامٌ‏}‏ أَيْ‏:‏ على أيِّ حالٍ يكون ذلك‏؟‏ أَتردُّني إلى حال الشَّباب وامرأتي أَمْ مع حال الكبر‏؟‏ ‏{‏وقد بلغني الكبر‏}‏ أَيْ‏:‏ بَلغْتُه؛ لأنَّه كان ذلك اليوم ابن عشرين ومائة سنةٍ ‏{‏وامرأتي عاقر‏}‏ لا تلد، وكانت بنتَ ثمانٍ وتسعين سنةً‏.‏ قيل له‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ مثل ذلك من الأمر، وهو هبة الولد على الكبر يفعل الله ما يشاء، فسبحان مَنْ لا يعجزه شيء، فلمَّا بُشِّر بالولد سأل الله علامةً يعرف بها وقت حمل امرأته، وذلك قوله‏:‏

‏{‏قال رب اجعل لي آية‏}‏ فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏آيتك ألاَّ تكلم الناس ثلاثة أيام‏}‏ جعل الله تعالى علامة حمل امرأته أَنْ يُمسك لسانه فلا يقدر أنْ يُكلِّم النَّاس ثلاثة أيَّامٍ ‏{‏إلاَّ رمزاً‏}‏ أَيْ‏:‏ إيماءً بالشَّفتين والحاجبين والعينين، وكان مع ذلك يقدر على التَّسبيح وذكر الله، وهو قوله‏:‏ ‏{‏واذكر ربك كثيراً وسبِّح‏}‏ أَيْ‏:‏ وصَلِّ ‏{‏بالعشي‏}‏ وهو آخر النَّهار ‏{‏والإِبكار‏}‏ ما بين طلوع الفجر إلى الضُّحى‏.‏

‏{‏وإذ قالت الملائكة‏}‏ أَيْ‏:‏ جبريل عليه السَّلام وحده‏:‏ ‏{‏يا مريم إنّ الله اصطفاك‏}‏ أَيْ‏:‏ بما لطف لك حتى انقطعت إلى طاعته ‏{‏وطهرك‏}‏ من ملامسة الرِّجال والحيض ‏{‏واصطفاك على نساء العالمين‏}‏ على عالمي زمانك‏.‏

‏{‏يا مريم اقنتي لربك‏}‏ قومي للصَّلاة بين يدي ربكِّ، فقامت حتى سالت قدماها قيحاً ‏{‏واسجدي واركعي‏}‏ أَي‏:‏ ائتي بالرُّكوع والسُّجود، والواو لا تقتضي الترتيب ‏{‏مع الراكعين‏}‏ أَي‏:‏ افعلي كفعلهم، وقال‏:‏ ‏{‏مع الراكعين‏}‏ ولم يقل‏:‏ مع الرَّاكعات؛ لأنَّه أعمُّ‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ ما قصصنا عليك من حديث زكريا ومريم ‏{‏من أنباء الغيب‏}‏ أَيْ‏:‏ من أخباره ‏{‏نوحيه إليك‏}‏ أَيْ‏:‏ نلقيه ‏{‏وما كنت لديهم‏}‏ فتعرف ذلك ‏{‏إذ يلقون أقلامهم‏}‏ وذلك أنَّ حنَّة لمَّا ولدت مريم أتت بها سدنة بيت المقدس، وقالت لهم‏:‏ دونكم هذه النَّذيرة، فتنافس فيها الأحبار حتى اقترعوا عليها، فخرجت القرعة لزكريا، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏إذ يلقون أقلامهم‏}‏ أَيْ‏:‏ قداحهم التي كانوا يقترعون بها لينظروا أيُّهم تجب له كفالة مريم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 48‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏45‏)‏ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏47‏)‏ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏إذ قالت الملائكة‏}‏ يعني‏:‏ جبريل عليه السَّلام‏:‏ ‏{‏يا مريم إنَّ الله يبشرك بكلمة منه‏}‏ يعني‏:‏ عيسى عليه السَّلام؛ لأنَّه في ابتداء أمره كان كلمة من الله، وكُوِّن بكلمة منه، أَيْ‏:‏ من الله ‏{‏اسمه المسيح‏}‏ وهو معرَّب من مشيحا بالسِّريانية، لقبٌ لعيسى ثمَّ فَسَّر وبيَّن من هو فقال‏:‏ ‏{‏عيسى ابن مريم وجيهاً‏}‏ أَيْ‏:‏ ذا جاهٍ وشرفٍ وقدرٍ ‏{‏في الدنيا والآخرة ومن المقربين‏}‏ إلى ثواب الله وكرامته‏.‏

‏{‏ويكلم الناس في المهد‏}‏ صغيراً ‏{‏وكهلاً‏}‏ أَيْ‏:‏ يتكلَّم بالنُّبوَّة كهلاً‏.‏ وقيل‏:‏ بعد نزوله من السَّماء ‏{‏ومن الصالحين‏}‏ يريد‏:‏ مثل موسى ويعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السِّلام‏.‏

‏{‏قالت‏}‏ مريم مُتعجِّبةً‏:‏ ‏{‏أنى يكون لي ولد‏}‏ من غير مسيس بشرٍ‏؟‏ ‏{‏قال كذلك الله يخلق ما يشاء‏}‏ مثل ذلك من الأمر، وهو خلق الولد من غير مسيس بشرٍ، أَي‏:‏ الأمر كما تقولين، ولكنَّ الله ‏{‏إذا قضى أمراً‏}‏ ذُكر في سورة البقرة ‏[‏إلى آخرها‏]‏‏.‏

‏{‏ويعلمه الكتاب‏}‏ أراد‏:‏ الكتابة والخطَّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 58‏]‏

‏{‏وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏49‏)‏ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏50‏)‏ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏51‏)‏ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏52‏)‏ رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏53‏)‏ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ‏(‏54‏)‏ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏55‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏56‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏57‏)‏ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ‏(‏58‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ورسولاً إلى بني إسرائيل‏}‏ أَيْ‏:‏ ويجعله رسولاً إلى بني إسرائيل ‏{‏أني‏}‏ أَيْ‏:‏ بأنِّي ‏{‏قد جئتكم بآية من ربكم‏}‏ وهي ‏{‏أني أخلق‏}‏ أَيْ‏:‏ أُقدِّر وأُصوّر ‏{‏كهئية الطير‏}‏ كصورته ‏{‏وأبرئ الأكمه‏}‏ وهو الذي وُلد أعمى ‏{‏والأبرص‏}‏ أَيْ‏:‏ الذي به وَضَحٌ ‏[‏أي‏:‏ بياضٌ‏]‏ ‏{‏وأُنبئكم بما تأكلون‏}‏ في غدوكم ‏{‏وما‏}‏ كم ‏{‏تدخرون‏}‏ لباقي يومكم‏.‏

‏{‏ومصدِّقاً‏}‏ أَيْ‏:‏ وجئتكم مُصدِّقاً ‏{‏لما بين يدي‏}‏ أَي‏:‏ الكتاب الذي أنزل من قبلي ‏{‏ولأُحلَّ لكم بعض الذي حرّم عليكم‏}‏ أحلَّ لهم على لسان المسيح لحوم الإِبل، والثُّروب، وأشياء من الطَّير، والحيتان ممَّا كان محرَّماً في شريعة موسى عليه السَّلام ‏{‏وجئتكم بآية من ربكم‏}‏ أَيْ‏:‏ ما كان معه من المعجزات الدَّالَّة على رسالته، ووحَّدَ لأنَّها كلَّها جنسٌ واحدٌ في الدَّلالة‏.‏

‏{‏فلما أَحسَّ عيسى‏}‏ علم ورأى ‏{‏منهم الكفر‏}‏ وذلك أنَّهم أرادوا قتله حين دعاهم إلى الله تعالى، فاستنصر عليهم، و‏{‏قال مَنْ أنصاري إلى الله‏}‏ أَيْ‏:‏ مع الله، وفي ذات الله ‏{‏قال الحواريون‏}‏ وكانوا قصَّارين يحوّرون الثِّياب، أَيْ‏:‏ يُبيِّضونها، آمَنوا بعيسى واتَّبعوه‏:‏ ‏{‏نحن أنصار الله‏}‏ أنصار دينه ‏{‏آمنا بالله واشهد‏}‏ يا عيسى ‏{‏بأنا مسلمون‏}‏ وقوله‏:‏

‏{‏فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏ مع الذين شهدوا للأنبياء بالصِّدق، والمعنى‏:‏ أَثْبِتْ أسماءنا مع أسمائهم؛ لنفوز بمثل ما فازوا‏.‏

‏{‏ومكروا‏}‏ سعوا في قتله بالمكر ‏{‏ومكر اللَّهُ‏}‏ جازاهم على مكرهم بإلقاء شبه عيسى على مَنْ دلَّ عليه حتى أُخذ وصُلب ‏{‏والله خير الماكرين‏}‏ أفضل المجازين بالسَّيئةِ العقوبةَ، لأنَّه لا أحد أقدر على ذلك منه‏.‏

‏{‏إذ قال الله يا عيسى‏}‏ والمعنى‏:‏ ومكر الله إذ قال الله يا عيسى‏:‏ ‏{‏إني متوفيك‏}‏ أَيْ‏:‏ قابضك من غير موتٍ وافياً تاماً، أَيْ‏:‏ لم ينالوا منك شيئاً ‏{‏ورافعك إليَّ‏}‏ أَيْ‏:‏ إلى سمائي ومحل كرامتي، فجعل ذلك رفعاً إليه للتَّفخيم والتَّعظيم، كقوله‏:‏ ‏{‏إني ذاهبٌ إلى ربي‏}‏ وإنَّما ذهب إلى الشَّام، والمعنى‏:‏ إلى أمر ربِّي ‏{‏ومطهِّرك من الذين كفروا‏}‏ أَيْ‏:‏ مُخرجك من بينهم ‏{‏وجاعل الذين اتبعوك‏}‏ وهم أهل الإِسلام من هذه الأمَّة‏.‏ اتَّبعوا دين المسيح وصدَّقوه بأنَّه رسول الله، فواللَّهِ ما اتَّبعه مَنْ دعاه ربّاً ‏{‏فوق الذين كفروا‏}‏ بالبرهان والحُجَّة والعزِّ والغلبة‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ ما تقدَّم من النَّبأ عن عيسى ومريم عليهما السَّلام ‏{‏نتلوه عليك‏}‏ نخبرك به ‏{‏من الآيات‏}‏ أَي‏:‏ العلامات الدَّالَّة على رسالتك؛ لأنَّها أخبارٌ عن أمورٍ لم يشاهدها ولم يقرأها من كتاب ‏{‏والذكر الحكيم‏}‏ أَي‏:‏ القرآن المحكم من الباطل‏.‏ وقيل‏:‏ الحكيم‏:‏ الحاكم، بمعنى المانع من الكفر والفساد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 60‏]‏

‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏59‏)‏ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّ مثل عيسى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ نزلت في وفد نجران حين قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل رأيت ولداً من غير ذَكَرٍ‏؟‏ فاحتجَّ الله تعالى عليهم بآدم عليه السَّلام، أَيْ‏:‏ إنَّ قياس خلق عيسى عليه السَّلام من غير ذَكَرٍ كقياس خلق آدم عليه السَّلام، بل الشَّأنُ فيه أعجب؛ لأنَّه خُلق من غير ذكر ولا أنثى، وقوله‏:‏ ‏{‏عند الله‏}‏ أَيْ‏:‏ في الإنشاء والخلق، وتَمَّ الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏كمثل آدم‏}‏ ثمَّ استأنف خبراً آخر من قصَّة آدم عليه السَّلام، فقال‏:‏ ‏{‏خلقه من تراب‏}‏ أَيْ‏:‏ قالباً من تراب ‏{‏ثم قال له كن‏}‏ بشراً ‏{‏فيكون‏}‏ بمعنى فكان‏.‏

‏{‏الحقُّ من ربِّك‏}‏ أَي‏:‏ الذي أَنْبَأْتُكَ من خبر عيسى الحقُّ من ربِّك ‏{‏فلا تكن من الممترين‏}‏ أَيْ‏:‏ من الشَّاكِّين‏.‏ الخطاب للنبيِّ عليه السَّلام، والمرادُ به نهيُ غيره عن الشَّكِّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 64‏]‏

‏{‏فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ‏(‏61‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏62‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏63‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏فمن حاجَّك‏}‏ خاصمك ‏{‏فيه‏}‏ في عيسى ‏{‏من بعد ما جاءَك من العلم‏}‏ بأنَّ عيسى عبد الله ورسوله ‏{‏فقل تعالوا‏}‏ هلمُّوا ‏{‏ندع أبناءَنا وأبناءَكم‏}‏ ‏"‏ لمَّا احتجَّ الله تعالى على النَّصارى من طريق القياس بقوله‏:‏ ‏{‏إنّ مثل عيسى عند الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية أمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يحتجَّ عليهم من طريق الإِعجاز، فلمَّا نزلت هذه الآية دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران إلى المباهلة، وهي الدُّعاء على الظَّالم من الفريقين، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين وعليٌّ وفاطمة عليهم السَّلام وهو يقول لهم‏:‏ إذا أنا دعوتُ فأمِّنوا ‏"‏، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏ندع أبناءَنا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأنفسنا وأنفسكم‏}‏ يعني‏:‏ بني العمِّ ‏{‏ثمَّ نبتهل‏}‏ نتضرع في الدُّعاء وقيل‏:‏ ندعو بالبَهلةَ، وهي اللَّعنة، فندعوا الله باللَّعنةِ على الكاذبين، فلم تُجبه النَّصارى إلى المباهلة خوفاً من اللَّعنه، وقَبِلوا الجزية‏.‏

‏{‏إنَّ هذا‏}‏ الذين أوحيناه إليك ‏{‏لهو القصص الحق‏}‏ الخبر الصِّدق‏.‏

‏{‏فإن تولوا‏}‏ أعرضوا عمَّا أتيت به من البيان ‏{‏فإنَّ الله‏}‏ يعلمُ مَنْ يفسد من خلقه فيجازيه على ذلك‏.‏

‏{‏قل يا أهل الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ يهود المدينة، ونصارى نجران ‏{‏تعالوا إلى كلمة سواءٍ‏}‏ معنى الكلمة‏:‏ كلامٌ فيه شرحُ قصَّةٍ ‏{‏سواءٍ‏}‏ عدلٍ ‏{‏بيننا وبينكم‏}‏ ثمَّ فسرَّ الكلمة فقال‏:‏ ‏{‏ألاَّ نعبدَ إلاَّ الله ولا نشرك به شيئاً‏}‏ أَيْ‏:‏ لا نعبد معه غيره ‏{‏ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله‏}‏ كما اتَّخذت النَّصارى عيسى، وبنو إسرائيل عُزيراً‏.‏ وقيل‏:‏ لا نطيع أحداً في معصية الله، كما قال الله في صفتهم لمَّا أطاعوا في معصيته علماءهم‏:‏ ‏{‏اتخذوا أحبارهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ‏{‏فإن تولوا‏}‏ أعرضوا عن الإِجابة ‏{‏فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون‏}‏ مُقِرِّون بالتَّوحيد‏.‏